رواية قبل نهاية الطريق (الجزء الثالث)
تركها أحمد فنامت وذهب هو لعمله في المستشفي ومر على بعض المرضى يتفقدهم كعادته ثم ذهب لمكتبه يكتب بعض التقارير قم هم ليقوم ويكمل مروره على باقي المرضى.
لكن إذ بضغطة شديدة تعتصر قلبه حالت دون حركته ، فأمسك بيده على قلبه يتألم بشدة ويحاول أن ينظم نفسه ليتفادى تلك الأزمة القلبية لكنها لحظات وسقط على الأرض.
انتفضت هيام من نومها مزعورة إثر كابوس مفزع ، فإذا بها صرخت فجأة وتتلاقط أنفاسها بالكاد و جسدها بالكامل يرتعد وتتصبب عرقاً في آنٍ واحد.
أهدأت من روعها وعادت لتكمل نومها لكن هيهات مهما حاولت لم يغمض لها جفن ، لقد جفاها النوم وأقسم ألا يعود.
وبعد مرور فترة من الزمن لا تعلم كم مضى وقد كانت بين النوم واليقظة إذا بطرقٍ شديد على الباب فانتفضت من جديد وتتردد في خطواتها فدقات قلبها تتسارع وغصة وضيق تنتابها لا تعرف ماذا بها، بالإضافة أن تلك النهضة الفجائية لها قد تسببت في نوع من الشد العضلي لأسفل بطنها وكأن جنينها كاد يسقط من بين رجليها فكانت تسير منحنية للأمام بمعاناة وتمسك أسفل بطنها بيديها ، وكلما اقتربت من الباب ارتعدت فرائسها وسمعت أصوات ضجيج بالخارج.
وما أن فتحت الباب حتى رأته محمولاً عليغ الأعناق من أُناسٍ عديدين يوحدون الله ويسترجعون ، فوجمت أمامهم وتراجعت للخلف تفسح لهم الطريق للداخل ودخل معهم الحاج سيد والده ومحمد أخيه يجهشان البكاء فربت الحاج سيد علي كتفها في حزن عميق وقال باكياً :كلنا لها.. هذه أمانة الله وقد استردها… الملك والدوام لله… إنا لله وإنا إليه راجعون… رحمك الله يا أحمد… رحمك الله يا بني.
وأجهش بالبكاء يحتضنه محمد ليهدئ من روعه وهو الآخر يبكي بشدة.
حضر المغسِّل وعدد من أفراد العائلة وهي جالسة كما هي واجمة تحدق فيمن حولها ، تراهم وتسمعهم لكن لا تعي ما يقولون لم تنطق بحرف ولم تنزل دمعة فعينيها قد تحجرتا.
وانتهى الغسل وسُمح لأفراد أسرته المقربين الدخول عليه وإلقاء النظرة الأخيرة فدخلت أمه وأبيه وأخيه ثم جاء دورها لتدخل فدخلت ونطرت إليهم تريد منهم الخروج من الغرفة ففعلوا وأغلقوا الباب.
إقتربت هيام منه و رفعت الغطاء عن وجهه وتنفست ببطء نفساً عميقاً ثم قالت وبدأت تنتابها العبرة :لم يكن هذا إتفاقنا و وعدنا يا أحمد !!هكذا تتركني وترحل ؟!! كأنك قد مللت وسئمت مني ، هل تعلم أنك أول من فتحت عيني للدنيا فوجدته ؟ ولم أعرف طيلة عمري رؤية غيرك ، لقد انتظرتك كثيراً ، وبعد طول السنوات تواً صرنا معاً لكن سرعان ما تركتني ، فعلاً كانوا قليلين للغاية ، لكن ذلك القليل يكفيني أعيش علي ذكراه لآخر لحظة في عمري ، أعلم أنك تسمعني وستظل تسمعني وتشعري بي ، لذلك لن أنساك ولن أكف التحدث عنك أو معك ، إطمأن ! سأهتم بحالي كما تحب ، وسأهتم بليلى أو حسين كما أردت أن تسمي ، لكن كنت أتمنى أن تراه وتقر عينك به ، وتلعب معه وتربيه وتصاحبه ، كنت ستكون نعم الأب.
كانت تجهش بالبكاء وهي تتحدث ثم إرتمت فوق صدره وتتساقط دموعها عليه تبلله وهي تذكر حالها :
من لي من بعدك ؟!
كيف أنام بعد اليوم بعيدةٌ عن حضنك ؟!
كيف أستيقظ ولا أجدك تدللني وتعبث بيدك على شعري و وجههي برقتك المعهودة ؟!
كيف أواجه همومي وحدي دونك ؟!
أتذكر يوم توفيّت أمي ، من غيرك أهدأني ؟
ويوم ميتة والدي ، من غيرك إحتضنني و جعلني إبنته المدللة ؟
فمن لي غيرك بعد اليوم ؟
فرفعت رأسها قائلة :أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ، قويني يا الله ….قويني يا الله !
فدخل محمد و أبيه وآخرون ليغلقوا الكفن وينطلقوا به إلى مثواه الأخير.
و مرت أيام العزاء جميعها وهي لا تتحدث إلى أحد ، تراودها دمعة حارة من حينٍ لآخر.
وبعد عدة أيام صرخت فجأة ، إنها آلام المخاض ، نعم ستلد في شهرها السابع.
ذهب بها الحاج سيد وزوجته ومحمد إلى المستشفى وكانت حالة ولادة ، وبعد فترة خرجت الممرضة بطفلة صغيرة للغاية و وضعت في الحضّانة عدة أيام ، وكانت هيام هزيلة ومتعبة للغاية.
مرت أيام وأيام وبدأت ليلى الطفلة يزداد حجمها حتى وصلت لحجم الأطفال الطبيعي ، وبالطبع كانت تقيم مع هيام دائماً حماتها أم زوجها الراحل وجدة الطفلة التي تجمع ملامحها بين والديها رغم تدهور صحة الأم منذ وفاة إبنها أحمد.
ثم يجيء الليل بوجعه وآلامه وتعاني هيام وحدتها الشديدة وتفتقد أحمد كثيراً ، لكن معها قطعةٌ منه ، ليلى عوضها الجميل فتظل تحاكيها وتلعب معها وتحدثها عن أبيها وتضع صوره في كل جدران الشقة سواء منفرداً أو بصحبة والديه أو أخيه أو بصحبتها أو صوراً عائلية تجمع الجميع.
مرت عدة أشهر ولحقت الأم بولدها وكانت الصدمة شديدة على الحاج سيد فقد فقد إبنه ثم زوجته في وقتٍ متقارب ، وقد تأثرت صحته كثيراً فقلّ ذهابه لدكانه نوعاً ما تدريجياً حتى صار لا يخرج من البيت مطلقاً ، ظل فقط مقيماً مع تلك القطعة الصغيرة ذكري إبنه العزيز ، وبعد مرور بضع أشهر قد لحق الأب بالرفيق الأعلى.
وقبل وفاته وصى إبنه محمد وصية شديدة على ليلى وهيام أن يكرمهما كرمه لأخيه ويظل معهما ولا يتركهما في الحياة وحدهما ويكون أباً لليلى ويعوضها بقدر ما يستطيع عن حنان الأب الذي تمنى لو أطال الله في عمره حتى يشعرها به لكن شاء الله ومشيئته نافذة وإنتقلت رعاية ليلى ليكفل بها عمها.
وللحديث بقية،
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.