قصتي مع علاء الدكتور (كاملة)
مدرستي الإبتدائية كانت بعيدة عن بيتنا حوالي 1 كم.. كان المشوار لهناك مسلي في الروحة و الرجعة مع أبناء جيراني اللي معي في نفس المدرسة.. مشكلته كانت في المطر لما ينهمر.. ما كنت ألاقي مكان أستظل فيه من الزخات القوية إلا عتبة بيت صاحبي علاء.
علاء كان أول شخص تعرفت عليه في الأردن بعد ما رجعنا في حرب الخليج سنة ال91.. و كان أول صديق بمعنى الكلمة عرف يتفهمني و يتفهم شعوري بإني غريب و ما بعرف حتى إنه في زي موحد لونه أزرق لطلاب الإبتدائي.. و إنه اللي بعد الحصة الثالثة بسموها “فرصة” مش “فسحة” زي ما بسموها في الخليج.. و كثير شغلات كانت تخليني في موضع سخرية من الطلاب اللي بدهم بس طبلة يرقصوا عليها.. كان علاء هو الشخص اللي جنبي دايما في كل الحصص و الفرص.. و مرافقي الشخصي من لما نطلع من المدرسة لغاية نص الطريق عند بيته.
اللي حببني بعلاء إنه كان بسيط زيي و بضحك بوجه الكل، حتى لما كان ياكل خمس عصي من الأستاذ؛ كان يرجع للدرج تبعه و هو مبتسم بوجهي و يهمسلي من بعيد “عادي.. عادي”، بالإضافة إلى جهامته و ضخامة جسمه اللي كانت تحسسني إنه سندي و حارسي الشخصي.. و الأهم كانت الوقفة أمام بيته حتى نكمل حكينا اللي ما خلص.. و كاسة العصير اللي كانت تجيبها امه أيام الصيف، و المنشفة اللي كانت تشفنا فيها أيام الشتا.
علاء ما كان شاطر كثير زيي.. مع إني كنت طول السنة أغششه و أساعده.. بس وقت الجد بإمتحانات نهاية كل سنة كان ينكشف.. و هاد اللي خلانا نفترق أيام الثانوية.. و كل واحد راح لجهة شكل.. و زاد البعد أكثر لما طلعت أدرس هندسة في العراق.. و هو دبر حاله بمكرمة بعد ما عاد الثانوية العامة مرتين و درس طب بيطري في جامعة العلوم و التكنولوجيا.. و صار في فرق في المسافات الشاسعة و فرق في ترتيب السنين الدراسية.. و شاءت الأقدار و صارت حرب العراق سنة ال2003 و رجعت للأردن و سجلت في نفس جامعة علاء.
نفس السيناريو أيام الإبتدائية انعاد معنا.. أنا الغريب اللي مش فاهم شو نظام الساعات و لا حتى كيف يعني جامعة مختلطة.. و شو معنى كل محاضرة بكلية مختلفة.. و علاء هو الحوت اللي فاهم كل شي.. إحتضنني مرة ثانية.. و كان المرشد و الصديق الوفي اللي لقيته زي ما هو.. بسيط و لبسه عادي و مصاحب نص الجامعة و كسبان حبهم بإبتسامته المعهودة.. و بالمقابل أنا رجعت الشب اللي بساعده على الصعيد العلمي من ترجمة و كتب و غيره.. بإختصار: علاء هو العراب تبعي.
و تخرجت قبل علاء بسنتين.. و تيسرت أموري بالشغل عالسريع بعد ما انطلبت كأحد الأوائل على الدفعة للعمل في شركة كبيرة بس بعيد عن المحافظة اللي إحنا فيها.. و رجع البعد فرق بيننا مرة ثانية.. كونه لسه طالب بالجامعة و أنا كنت أروح كل أسبوعين يومين بس.. يا دوب أشوف أهلي و أعوض نقص النوم اللي كان يصيبني خلال العمل.. بس نحاول قدر الإمكان نلتقي و لو ساعتين كل فترة نتطمن على بعض.. و مع كل هالسنين اللي مرت.. كانت ام علاء الله يخليلنا اياها هي اللي تفوت تضيفنا العصير بإيدها زي زمان.. و تتطمن على أخباري و تبعث سلام معي لامي.
و معروف علاء الذي لا ينضب ما وقف مع الأيام.. في أحد أيام الصيف و في فترة إجازتي كان مطلوب مني أجمع سير ذاتية لأطباء بيطريين للتوظيف في شركتي.. مريت في أول ليلة من إجازتي بدي آخذ علاء و نطلع على شي مقهى نسهر و أطلب منه يبدأ يبحثلي.. و ما كان قدامي إلا هو ينشر الخبر بين أصدقاؤه اللي تخرجوا.. وقتها طلعت امه و أصرت أنزل أشرب عصيرها المعتاد لغاية ما يخلص لبس… و للصدفة البحتة خبرني و هو بلبس عن بنت عم إله طبيبة بيطرية و إنه من باب الأقربون أولى بالمعروف.. طلب مني أبديها عن غيرها.
قلتله ما عندي مانع.. بالعكس بدي خدمة تحرز لعيون صديق العمر و رفيق الدرب.. و تحت إصراره الشديد.. و لإنه بنت عمه هي كمان جيرانهم؛ وافقت إنه يتصل عليها و تيجي أعمل معها مقابلة مبدئية قبل ما ينشر خبر بحثي عن طبيب.. و بعد ما شرحت ظروف العمل لبنت عمه و شافت إنه ما بتناسبها إنتهت المقابلة بشكل سريع.. و طلعنا سهرتنا.. و بعد شهر واحد كنت كاتب كتابي على بنت عمه اللي كان هو السبب بإتمام أحلى نصيب و إنشاء أحلى عيلة.
المعروف اللي كان يعمله معي علاء كان مثل السهل الممتنع.. ما إله نهاية.. بقصده و بغير قصده.. و مرت سنة.. و أجى الصيف اللي بعده اللي راح يتخرج فيه علاء و أخيرا بعد تأخير 3 سنوات عن جيله.. قدم كل إمتحاناته و كان يتابع كل دكتور أول بأول حتى يتأكد إنه نجح بالمواد.. و بات أقرب على موعد التخرج.. راح في يوم على الجامعة بده ياخذ نتيجة آخر إمتحان.. قال له الدكتور إنه لسه ما وصل لورقته، و طلب منه يغيب ساعة و يرجعله.. راح يتمشى عند البركة اللي بالجامعة.. و المسكين رايح جاي يستنى تمضي الساعة و يتطمن على تخرجه و يريح امه اللي حالفة تخطبله يوم حفلة تخريجه من الجامعة.
فجأة و بدون سابق إنذار أو أي مقدمات.. لمحه موظف من موظفي الجامعة وهو بيوقع على وجهه.. ركض لعنده، لقاه مسلم روحه لخالقها.. ما استناه الموت حتى لغاية ما يتطمن على نتيجة آخر إمتحان.. و بأقل من ساعتين كنت قاعد بغسل بجسد علاء الطاهر مع أعمامه و أخواله.
خلصنا.. و أخذنا علاء لبيته حتى يودعوه امه و اخواته.. و أنا كنت واحد من اللي حاملين نعشه على الأكتاف.. دخلنا علاء لغرفة الضيوف بعد ما كان صدر البيت إله.. و كشفتلهم عن وجهه.. و قعدت جنبه عالشمال و امه عاليمين.. مدت إيد على وجه علاء و إيدها الثانية بتمسح فيها دموعي و تقول لي: لا تعيطش يا خالتي.. بوس العريس و إضحك.. هاذ العريس يا خالتي.. مسحت دموعي و حضنت علاء.. حضنت فيه كل طفولتي الضعيفة.. حضنت فيه الصديق اللي كان ينقذني من أكبر المصايب بدون ما أناديه.. حضنت فيه الإبتسامة اللي ما رجعت شفتها على وجه أي إنسان من بعد ما مات و جرفت التراب بإيدي على كفنه الأبيض.
بعد مرور أسبوع.. رحت على الجامعة مع أصدقائي اللي بعرفوا علاء.. لقيناه ناجح بآخر مادة.. تخرج علاء، و صار علاء الصديق و علاء الدكتور و علاء العريس…….علاء………
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.